كتابات الأستاذ بوكريش وظيفة ثقافية فكرية واجتماعيّة وسيَّاسية تنويريَّة، يستخدم فيها أسلوب التشويق والإثارة والتحريض على الفهم والبحث، ليس بهدف المتعة والتنفيس، لكن من أجل رسالة إعلامية غاية في الأهمية والوضوح .
1- في طبعة أنيقة،وتقديم متميز للأستاذ حسين الموساوي، صدر عن دار هومة للنشر والطباعة والتوزيع كتاب قيّم للرّوائي الكاتب رابح بوكريش، ويأتي هذا الإصدار بعد سلسلة من الإصدارات التي أثرى بها المكتبة الجزائرية، والأديب بوكريش قامةٌ مُبدعة، وقلبٌ مليءٌ بحب الوطن والوطنيّة، رجل مسكونٌ بثقافة الإصلاح، يكشف عن المسكوت بمقالات تفتح بجرأة أسئلة عن جُرح يتناسل ليصيرَ جراحًا، يتداخل فيها ماهو عربيُّ وإسلامي وإنساني، يتكئُ على وسائل الإعلام يسترشد ها فتلين، ومن خلالها يُبحر في قضايا شائكة ومؤثرة في العلاقات بين الدُّول والشعوب، رجل يتمتع بحاسة رهيفة وبعد نظر ومعارف لخفايا السياسة، تجربة ناضجة مكنته من حيازة الوعي وبما ينطوي عليه الصراع، الكتاب موسوم ب: السلطة الخامسة تُفضح السلطات الأربع، في إشارة منه إلى فضائح موقع وكليكس ذاك التسونامي المرعب،الذي دخل الخدمة عام 2007 والذي أفرج عن الكثير من الفضائح والتسريبات المثيرة للسخرية والغرابة، وما تمخّض عنها من ردُود أفعال،
وما رسمته السيَّاسات والثورات من علامات استفهام مزلزلة، فالسلطة الخامسة هي السلطة الفضائية المصطلح الجديد والتي امتشقت سيوف التكنولوجيا الانترنت ذلك الوسيط ذي السمعة والذيوع والاستدامة، يُخفي ويلوّن ويفضح ويمارس الجريمة والعبادة والجنس ويخوض الحروب بأنواعها،أما السلطات الأربع فهي التنفيذية والتشريعية والقضائية والإعلامية التقليدية، والكتاب يقرأ من عنوانه كما يقال، فهو اختيار ينمُّ على الإدراك والمعرفة والتميز والذائقة المرهفة في حسن اختيار النصوص تلك التي تشي بانتمائها إلى جنس من أجناس ألأدب، أدب المقالة، والمقالة كما هي مُعرَّفة: قطعة نثريّةُ مُوحّدةُ الفكرة تُعالج بعض القضايا، يحكمها منطق البحث والمنهج الذي يقوم على بناء الحقائق، مُقدّمات ونتائج،وهي نوعان: مقالة صحفيّة ومقالة أدبيّة، والمقالة الحديثة تعبّر بجلاء عن وجهة نظر شخصيّة وإمتاع القارئ بالتزام الوحدة والتماسك والتدرج في الانتقال من خاطرة إلى أخرى، والسيد بوكريش متأثر بالسر ديات، ولذلك فإنّ مقلاته تشبهُ القصة، تبلغ صفحات الكتاب {322 }فهو إذن كتاب من الحجم المتوسط، يشتمل على مقدمة وسبع وسبعين نصا،القسم الأول منها يشتمل على مقالات سياسية،
والقسم الثاني مقالات ومقابلات ثقافية، سبق وأن نشرت في الجرائد والمواقع الكترونية، ولعلّ الأفكار والتحاليل التي تحملها تلك العناوين ماهي إلا إرهاصات لأزمات إقليمية أفضت إلى ربيع عربي دامي، هي وجهة نظر عبَّر فيها الكاتب عن موقفه بوعي وجلاء، وعالجها من زوايا مختلفة وتوغل في ادغالها، وقد اطلع القارئ على هذه المقالات التي لقيت في حينها تجاوبًا واستحسانًا، وأثار بعضها غابة من علامات الاستفهام تأييدًا ورفضًا، فالسلطة الخامسة تضرب في العمق وتراقب الحياة الخاصة للجميع وبدون استثناء،عكس السلطة الرابعة التي تراجع دورها، تنبأ في بعض مقالاته بالرَّبيع العربي، وبنهاية مؤلمة لزعيم ليبيا ألقذافي، وكتب عن بعض القضايا العالمية الساخنة، ويرى بأن اسرائل هي صانعة الأزمات في العالم، عنوان الكتاب هو إحدى المقالات، وتنضوي كلها تحته.
2- في هذه النصوص تتوفر عناصر الوضوح، ودقّة الطرح، وعُمق الأفكَار النَّائمة بَيْنَ دَفتَيْ الكتاب، قال شيئا واضمر الكثير، وترك للقارئ الفطن فائضَ المعنى الذي تخفيه الكلمات، تأسرُك شَجَاعَته في المَوَاقف وقدُرته في كشف طوابير المتخاذلين الذين أساؤُوا إلى أمتهم وأوطانهم، يذكر بجلاء وموضوعيّة انكسارات الشعوب العربية، وبؤس القابعين في التخلف والإذلال تحت أنظمة شموليّة، هي وقفات مع حاضر الأمة العربية، وما تواجهه من تحديّات، دعوةٌ صريحة وحارَّة إلى اليقظة ونفض الضَّعف والهوان والتبعية العمياء والخذلان، لغته تمور بالشاعريّة القويّة والحكمة، في أسلوبه يُعمل العقل بذكاء على استحضار مُذهل للتاريخ، وخضخضة عقول المثقفين، وخلخلة أفكار السيّاسيين، يأخذك إلى عالم السيّاسة من معابر ذكيّة، يتعامل معها بمهارة واقتدار،هل تعصف رياح{التويترز، والفيسبوك }على دول الخليج؟
أحلام تبخرت في ميدان التحرير،إيران تخلط أوراق الغرب،رياح التغيير، كل شيء يتغير إلا آل سعود،الثورة في البحرين، اليمن،سوريا، من يكتب عن الذاكرة، علاقات العرب بإيران الخ.. هي رحلة سابرة بيّن من خلالها المفارقات العجيبة بين ماكان يقوله أولئك المتشدقون بالوطنية والديمقراطية وحقوق الإنسان وما أماطت عنه ألأحداث اللثام من نوايا سيئة وما كشفت عنه الأيام من خيانات وتوريث للسلطة، يواصل تعريّة المواقف المشوّهة بذكاء واقتدار، ويرى بأن الأنظمة العربيّة باتت تدمّر نفسها بنفسها، وتستدرج خصومها بسلبيّة مطلقة للإطاحة بكيّانها، وهي لاتعلم، أنّها تعمل بغباء، نتيجة تكلس المواقف، وضعف الأداء السيّاسي، وضيق الأفق، سَاسَةٌ لم ينتبهوا لما يجري حولهم مُلتزمين الصَّمت، وهذا ولد الاحتقان الذي لم يَنْته، بل تحوَّل إلى أزمة، والأزمة إلى صراع مرير، أنظمة تزداد تعنتًا واستكبارًا، فخذلتهم شرارة تيكنلوجيّة في قصورهم لتدمّر أحْلامهم، و في لمح من البصر اهتزت العروش وزهقت النفوس، وأفرقتهم السيّاسة العرجاء في أتُونها، ولكي يصحو هؤلاء من أوهامهم، ذكّر بفضائحَ وكليكس والوثائق الصادمة التي أفرج عنها عبر المواقع، والتي لاشك أنّها أحدثت شيئا من الغثيان السياسي والتسريبات ليست بريئة.
3- والمقالات سبرٌ لأغوار مدلولات ومكنونات المجتمع، ولكتابات الأستاذ بوكريش وظيفة ثقافية فكرية واجتماعيّة وسيَّاسية تنويريَّة، يستخدم فيها أسلوب التشويق والإثارة والتحريض على الفهم والبحث، ليس بهدف المتعة والتنفيس، لكن من أجل رسالة إعلامية غاية في الأهمية والوضوح، يقصد منها إحداث التغيير بطريقته الرياضيَّة، في ظل التحولات العالمية ثلاثيّة الأبعاد {سياسية -اقتصادية - فكرية } فنحن إذن أمام كاتب وأديب من طراز متفرّد في مُطاردة الفكرة، ومُلاحقة الحَدث، وهو مُحقٌّ فيما يكتب ويثير من أفكار وقضايا واندهاش، يستمد مادته من الواقع، والقارئ لهذه النصوص، يتأمّل نفسه ومجتمعه في مرآة الآخر، يجد في هذا الزخم الكتابي مُتعة الإثارة، و فك شفرات بعض الغموض،هناك بناء سليم للنصوص كما ألمعنا، وتسلسل منطقي وترابط متين، كلمات تُعانق اللحظات بحرارة وتفاعل وإسْقاطٍ مُبهرٍ، والكلمةُ الطيِّبة تنثرُ شذى عطرها أكثر من حزمة ورد، فهو يقومُ بتحليق ماهر في فضاء يلتقط فيه خيوط الحدث بوعي، واصطياد الفكرة وما يتوالد عنها، مفاتيحَ تُسهّل الوُلوجَ داخل العبارة للقبض عن الأفكار والمعاني داخل سراديب المتن،
يعتمد لغة سهلةً رشيقةً وتحليلا جيدا يفضي إلى عمق المعاني كما يُريدها، دون إطناب ولا تفسير، ودون إسفاف ولا مُيوعة، كان رائعا في الأحورة التي أجراها مع الأستاذ محمد الزر هوني، وأمين الزاوي ،والدكتورة نادية فوضيل المطلوب، والدكتور مرتاض،والأميرة البلجيكية ستيفان، والوزير محمد عباس الذي يكتب عن الذاكرة، لقد استطاع الكاتب ومن خلال مقالاته {77}احتواء هفوات السيَّاسيين بمهارة وجُرأة واقتدار، وناقش وحاور كبار المثقفين في الجزائر وخارجها، فكانت اضاءاته راصدة و رأيه صريحا في مجمل القضايا العربية،فالكتاب جولة في المعرفة والثقافة والسياسة وقضايا العولمة، يتصدى فيه لمناقشة ظواهر ملموسة،وهذا مارشحه لينال شيئًا من العناية والتشجيع والمقروئية، فهنيئا لكاتبنا المتميز مع تمنياتنا له بمزيد من التألق.
مشاركة الكاتب / فريد بو كريش
كاتب المقالة / رابح بو كريش
بقلم / محمد الصغير داسه