ترددت كثيرا في كتابة هذا المقال .. لكن ما يجري في غزة من مجازر وما تبثه وسائل الإعلام فجر عندي جينات الصمت ولم أعد أتحمل عبء انتظار من ينوب من الزملاء الثقات للكتابة في هذا الموضوع الشائك مع المزيد الدماء التي تراق على تراب غزة الأبية.
لم يكن مستغربا لي ما رددته وسائل الإعلام عن اشتباه في قيام وفد الهلال الأحمر الإمارتي الذي سمحت له الدولة المصرية دخول غزة لتقديم العون للأشقاء في غزة جراء العدوان الاسرائيلي الغاشم على العزل من النساء والشيوخ والأطفال وإحداث المجازر على مسمع وبصر العالم الذي يدعي الإنسانية وحق الشعوب في الدفاع عن أراضيها وحماية أرواح الأبرياء ..
لم يكن كذلك مستغربا أن يهرول الوفد الإماراتي متراجعا إلى مسقط رأسه بمجرد ما صدرت تعليمات له من أبوظبي بإنهاء الدور الذي ذهبوا إليه بطريقة مفاجئة ومثيرة عمقت صحة الشبهات التي صاحبت زيارة الوفد ، وربما تكشف حماس في المستقبل جانبا من أسرار هذا الوفد المشبوه في الوقت الذي تراه مناسبا ..
السؤال : لماذا لم يكن مستغربا بالنسبة لي ؟ الإجابة باختصار أن الدور الإماراتي المغلف بأدوار الإنسانية أحيانا وبالإعلامية أحيانا أخرى عادة ما يكون غطاء لأهداف استخباراتية لصالح النظام السياسي أو النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لصالح الكيان الصهيوني ..
حدث عام 2003 عندما قررت الولايات المتحدة الأمريكية فيما يعرف بحرب الخليج الثالثة أو الحرب على العراق أو ما يسمى حينها بعملية تحرير العراق أو ما روجت له إجهزة الإعلام الموالية لدول التحالف بعملية حرية العراق .. أن قامت قناة ابوظبي الفضائية وتعبيرا عن مشاركة دولة الإمارات في التحالف الدولي بضرب العراق الدخول في سباق مع قناة الجزيرة الفضائية على تغطية أحداث هذه الحرب القذرة بحشد وفد إعلامي قوامه نحو سبعون فردا من مختلف التخصصات التلفزيونية ..
يومها كنت أعمل في صحيفة الاتحاد الظبيانية وجدت تزاحما شديدا عند مدخل الصحيفة جراء قيام الوفد باعتماد وتوقيع الأوراق والمستندات لدى الشؤون الإدارية والمالية المتخذة من الطابق الأرضي مقرا لجميع العاملين في مؤسسة الإمارات للإعلام والتي كانت تضم صحيفة الاتحاد وإذاعة وتلفزيون أبوظبي وغيرها من المطبوعات والتي تغير إسمها اليوم لتصبح شركة أبوظبي للإعلام بعد تراجع الدور الاتحادي في مجال الإعلام والنزوع نحو الدور المحلي لكل إمارة على حدة بعد وفاة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الله يرحمه ..
يوم راينا هذا العدد الضخم من الإعلاميين في بهو مقر المؤسسة وبعد يومين من اندلاع الحرب على العراق أثار حفيظتنا كإعلاميين وصحفيين غيورين على أمتنا ولدينا في الوقت ذاته تحفظا على الدور الإماراتي والعربي في هذه الحرب التي نكتوي بتداعياتها حتى يومنا هذا ، لدرجة أننا يومها أطلقنا على الوفد مسمى ” التحالف العربي لتغطية الحرب الأمريكية على العراق ” نسبة لأن معظم كوادر الوفد كانت من جنسيات عربية مختلفة واتساقا مع المانشيت الرئيسي الذي خرجت به صحيفة الاتحاد بعنوان ” صدام يشعل الحرب في العراق ” منقلبا على كل معايير الموضوعية المهنية في اختيار العناوين السياسية المعبرة عن حقيقة المشهد في الساحة العراقية ، ولذلك كان من الطبيعي أن يكون هناك وفد إعلاميا يليق بهذا العمل الخسيس لتحالف ضرب العراق.
غادر الوفد الإعلامي متجها للعراق وجميعهم يحمل هواتف متحركة من نوع ” الثريا ” النقالة والتي ترتبط بالساتلايت الفضائي بدلا من محطات الشبكات الأرضية والتي يمكنها كذلك تغطية شبكة الهاتف الفضائي للكرة الارضية بأكملها أو أجزاء منها حسب نوع الخدمة أدمجت فيه تقنيتي نظام جي.إس.إم والنظام العالمي لتحديد الموقع ، كما يتيح الهاتف مستخدميه للاتصال أو استقبال أي اتصال من أي مكان في العالم كما أن بالإمكان استخدام الهاتف بوضعية جي.إس.إم في المناطق المخدومة من قبل الشبكات المتوافقة مع نظام جي.إس.إم والتي وقعت معها الشركة المالكة للجوال اتفاقيات تجوال وذلك بغض النظر عن موقع حامل هاتف الثريا الذي كانت توفره
حينئذ شركة الثريا للاتصالات الفضائية.
كنا نتابع يومها السباق المحموم بين الفضائيات لنقل وقائع الحرب على الأرض وكانت آخر المعارك المثيرة للجدل حينها كانت معركة مطار بغداد وعلامات الاستفهام التي كان يفجرها صحاف العراق وتصريحاته حول العلوج وما أعده الجيش العراقي من مفاجآت في مطار بغداد كان يعطينا الأمل بأن المعركة لم تنته بعد ..
إلا أن المفاجأة الكبرى حدثت بكشف هواتف الوفد الإعلامي الإماراتي أسرار وأماكن اختباء الجيش العراقي في أنفاق أعدها الجيش العراقي تحت أراضي المطار والمناطق المتاخمة له ونجاحها ـ للأسف ـ بالتجسس والتقاط إحداثيات المكالمات الهاتفية التي كانت تجريها القيادة العسكرية للجيش العراقي مع المرابطين في الأنفاق.
ووقعت الكارثة بقيام القوات الأمريكية بتوجيه ضربات موجعة لهذه التجمعات العسكرية تحت الأرض وإجهاض أخر خطة الدفاع العراقية عن العاصمة بغداد ومكافأة الإمارات للصحاف عن دوره الإعلامي والتمثيلي اللهوي باستضافته للإقامة الدائمة في إمارة الشارقة.
كان يوما حزينا ومبكيا ونحن نرى هزيمة العراقيين على أيدى مجموعة من الخونة والجواسيس يبشون إليك ابتسامتهم المصطنعة ويطعنوك بخنجر الثريا ، وكانت الفضيحة الإعلامية الأولى التي عشت جانبا منها في حياتي المهنية ورواها لي أحد الإعلاميين الذين شاركوا في هذه الفضيحة واستضافتهم أبوظبي سنوات بعد ذلك لتشتري صمته بتوفير السكن والطعام له ولأسرته حتى هدأت الأوضاع السياسية نسبيا في العراق ونجح بعدها وسافر للعمل في إحدى القنوات الإعلامية.
فضيحة كان من الممكن أن تكون محاطة بسياج أمنية محكمة إلا أن ما أعقبها من إجراءات على الأرض اتخذتها قناة أبوظبي بإغلاق جميع مكاتبها الخارجية في يوليو 2003 خوفا من غضبة الأحرار في العالم وخشية على سمعتها السياسية والإعلامية كان بمثابة إلقاء الزيت على النار .. فالزيت كان إنهاء تعسفي لكافة الإعلاميين العاملين في المكاتب الخارجية وإنهاء عقود عمل رموز إعلامية مثل ليلى شيخلي وزوجها الإعلامي جاسم العزاوي اللذان يعملان حاليا في شبكة قناة الجزيرة وكذا الإعلامي طلال الحاج وغيرهم ممن لا تسعفني الذاكرة بسرد أسمائهم ، أما النار فهي حرمان هؤلاء العاملين من البقاء في الإمارات ومنحهم الحرمان من الإقامة دون مراعاة لارتباطاتهم العائلية والتعليمية والمهنية وغياب المهلة الكافية لترتيب أوضاعهم في المغادرة مما دفع هؤلاء للتحدث عن الإجراءات التعسفية التي اتخذتها الإمارات في إغلاق مكاتبها الخارجية وتقليص دورها لتكون درامية وشعرية ومهلبية !!!
لم يكتب الكتمان السياسي طويلا على هذه الفضيحة في الوسط الإعلامي حيث كان البعض يلمح لها سرا أحيانا وإيماءة واستهزأ أحيانا أخرى حتى تلقينا تقريبا في 2007 دعوة من إحدى شركات العلاقات العامة اللبنانية البريطانية في دبي وكانت تديرها الإعلامية رنا بشارة مع بدايات الأزمة المالية في دبي ـ يعرفها كل من يعمل في الجماعة الصحفية بالإمارات ـ بتنظيم مؤتمر بأحد فنادق دبي حول هذه الفضيحة وتداعياتها مهنيا وسياسيا واجتماعيا وامنيا كنوع من أنواع الصراع الخفي بين الإماراتين ، وبعد أيام اختفت الدعوة للمؤتمر وأالغيت الفعالية وكأن شيئا لم يكن من وجهة نظر من نظم للفعالية أو قام بإلغائها متجاهلين الأصداء الخفية لهذا الفعل المريب.
لذلك لم يكن مستغربا لي ولغيري من الإعلاميين المتابعين للشأن الخليجي عن كثب أن يصمتوا كثيرا عن هذه الفضيحة بعدما تعاظم الدور التآمري للإمارات على أمتنا العربية والإسلامية ، ولو صمت أحدهم لأسباب لا يمكن لغيرهم الصمت إذا تلاشت أسباب الصمت مع سقوط نحو 4662 شهيدا وجريحا فلسطينيا حتى الآن جراء العدوان الصهيوني على غزة بغطاء دولي للكارهين لأي نفس مقاوم للهيمنة الصهيونية والتطبيع المكره.